رقصات الراعي والرعية: لغة السياسة ولغة الجسد

  • د. مضاوي الرشيد
  • منذ 18 سنة - Sunday 11 December 2005
رقصات الراعي والرعية: لغة السياسة ولغة الجسد

سبقت المجتمعات البدائية نظيرتها الحديثة في فهم الرقص واهميته كطقس اجتماعي منظم يتطلب تحديد الزمان والمكان والراقصين هذا بالاضافة الي ترتيب الحركات والايماءات الجسدية علي انغام معينة وبزي خاص يتصف بالزخرفة الزائدة عن المعتاد. لهذه الرقصات الجماعية حلقة تهتم بتنظيمها فهي تلعب الدور الاهم في هذا التنظيم الذي يسبق الاحتفال الراقص وتلعب هذه الحلقة دور المعلم الذي يمتلك المعرفة الضرورية التي تتطلبها مثل هذه المناسبات. عادة يكون هؤلاء من كبار السن ومن ذوي الخبرة القديمة التي تمكنهم من تدريب عادة صغار السن علي القيام بهذه الرقصات بين الحين والحين. يتعلم هؤلاء الحركات الجسدية التي تتماشي مع كل نغمة موسيقية او انشودة تحفظ كلماتها بجدية واهتمام بالغ حتي لا تحدث اي تجاوزات او ارتباكات في مسيرة الرقصة الجماعية.
تلعب هذه الرقصات الجماعية عدة ادوار في حياة المجتمع فبالاضافة الي كونها توفر نوعا من التسلية والترفيه الا انها تحمل في طياتها وحركاتها ونغماتها معني اهم من مضيعة الوقت والتسلية. تعرف المجتمعات ان امكانية تسخير هذه الرقصات الجماعية لخلق المعني كبيرة جدا بسبب كونها تحمل رموزا تستطيع تكثيف المعني بغزارة لا تستطيع الحياة اليومية ان توفره. لذلك نري ان كثيرا من هذه الرقصات تسخر لاهداف اما اقتصادية او سياسية او عسكرية بالاضافة الي بعدها الاجتماعي والذي ينتج عن كونها تتطلب عملا جماعيا يعتمد علي الموروث الثقافي المخزون في مخيلة اي شعب كان.
الرقصات السعودية التي تتكرر منذ تولي الملك عبد الله منصبه كخادم للحرمين الشريفين تظهر لنا بوضوح كيفية تسخير السلطة للرقصات الجماعية والتي ارتبطت تاريخيا بمفهوم الاحتفال في سبيل ايجاد لغة سياسية جديدة تبني علي لغة الجسد وحركته. تعتبر هذه الرقصات المسماة محليا بالعرضة النجدية اليوم من اهم حلقات الوصل بين الراعي والرعية. ففي خلال شهر واحد انتقل البلاط السعودي من احتفال راقص بمكة المكرمة الي احتفال آخر بالعاصمة الرياض. شاركت الرعية من اهل مكة في الاول بينما تصدرت رعية الرياض الاحتفال الثاني.
كان الاحتفال الاول من باب مبايعة اهل مكة للراعي اي اعلان ولائهم للعهد الجديد. جاء هؤلاء بزيهم التقليدي المحلي المتمثل بالعمامة الحجازية والتي بدأت تظهر اكثر واكثر في منطقة الحجاز حاملين العصا الحجازية مبتهجين بتراثهم المحلي هذا بالاضافة الي تقديم خطابات وقصائد باللهجة المحلية العامية علي انغام واناشيد خاصة بالمنطقة. في هذا الاحتفال اختلط الراعي بالرعية عن قرب ولكن اهم ما في الامر هو التهام الحجاز متمثلا وبشكل واضح وجلي ورمزي بالتهام اطعمة المنطقة. عندما يستهلك الراعي طعام الرعية والذي هو مختلف اختلافا كبيرا عن ما هو متعود عليه في منطقته الاصل نجد ان رمزية الجسد تمهد لرمزية السياسة. عندما يبتلع الطعام يدخل الي الجسد ويتحول بعد عملية هضم طويلة الي جزء من الجسد ولكن بشكل مختلف عن شكله الاول. الرقصات الحجازية كانت طقسا جماعيا له ابعاد سياسية ترتبت علي لغة الجسد.
واذا انتقلنا الي رقصات الرياض والتي ربما تكون الاخيرة في سلسلة الرقصات المتنقلة بين المناطق المختلفة والتي تتكون منها السعودية نجد اننا بصدد رقصة الرقصات من حيث اهميتها ومركزيتها في موزاييك السياسة والجغرافيا. عودة الرقص الي الرياض هي عودة الي مركز الانطلاق والقرار والهيمنة. هي ايضا عودة السلطة الي عقر دارها بعد رحلات راقصة ربما تسبب بعض الانهماك الجسدي خاصة لمن لا يساعده عمره علي مثل هذه الاحتفالات التي تتطلب الكثير من الحركة والغناء والمشاركة والتواصل بين الراعي والرعية. استطاعت الكاميرا بتقنيتها المتطورة ان تنقل ولو بشكل عابر مظاهر هذا الاعياء خاصة عندما سلطت عدستها علي الرعية المشاركة في الرقصة الجماعية اذ بدت وقد اصابها بعض اللامبالاة او لنقل الملل والذي ظهر بوضوح علي بعض الوجوه وعبرت عنه العيون بلغة لا تعرف الكذب او النفاق وكانت لغة العيون صادقة وربما اكثر صدقا من الكلام الموزون الذي رددته الألسن وكأنها تبتهل لخالقها في طقس من الطقوس البدائية والتي ما زالت بعض المجتمعات الوثنية متمسكة بها. فضل بعض افراد الرعية الانخراط بحركات عفوية مثل الهف بمراوح ورقية للتخفيف من حدة الحرارة المرتفعة ربما داخليا وخارجيا. امسكوا بأوراق يهفون بها دون انقطاع بينما كانت اعينهم تدور فهل كانت تنظر ولا تري؟ من الواضح ان مجموعة كبيرة منهم كانت تصغي ولكنها لا تسمع اذ انها انشغلت بأحاديث جانبية مع الحضور علي يمينهم ويسارهم بينما كان الراعي منشغلا ومنخرطا انخراطا تاما وعفويا مع الرقصة النجدية. علي خلفية ملل الرعية فوجئنا بحرارة الانسجام التام والانشراح الظاهر علي وجوه الصف الاول من صفوف الراعي والتي تحتكرها مجموعة ولاة الامر بالجملة. بينما تجاوزت الرعية لغة الجسد واهميتها في مثل هذه الرقصات الجماعية نجد ان الراعي تحكم بحركات الجسد ولغته لان الرسالة السياسية كانت مهمة جدا في مثل هذه الحقبة التاريخية المتلفزة.
رغم اختلاف لغة السياسة في الاحتفال المكي و النجدي من الملاحظ ان هناك شريحة معينة من الرعية ظهرت وكأنها مصابة بمرض عصبي فرضته حيثيات ومتطلبات الوضع الامني. والمقصود هنا عساكر الراعي ذوي القبعات الخضراء والذين كانوا في حالة لا يحسدون عليها. فرغم ان عددهم قد تجاوز عدد الحضور من ولاة الامر واولادهم واخوانهم وبقية اقاربهم الا انهم ظهروا بمظهر المراقب الخائف المهزوز كانت رقابهم تدور واعينهم تجول وآذانهم تتحرك لتلقط الذبذبات من أين اتت. يلتفون حول الراعي كسوار ضيق يقيد المعصم ويشل حركته. نطقت اجساد عساكر الراعي بأكبر تقرير اخباري يلخص ملامح السياسة والامن تفوق بصدقه وقدرته علي عكس حقيقة الواقع السعودي علي احسن تقرير وتحليل يصدر عن وكالات الانباء كرويترز او اسوشيتدبرس او حتي الشركات المقيمة للامن والتي تتسابق علي تقييم الوضع الداخلي السعودي لتقدم نصائح للشركات الاجنبية وموظفيها خاصة اولئك الذين يتطلب عملهم رحلات الي السعودية. مرة اخري تفوقت اجساد الرعية علي الراعي في اعطاء صورة حقيقية عن السياسة السعودية. فبينما استطاع الراعي ان يسخر الجسد في سبيل السياسة سيطرت لغة الجسد علي السياسة في رقصات الرعية. ظهر الملل علي وجوه الرعية كذلك ظهر الترقب والخوف علي وجوه العسكر وظلت وجوه الراعي متقلدة لاكبر برقع عرفته الجزيرة.
للسياسة والجسد ارتباط ولحمة. ان صلحت السياسة صلح الجسد والعكس صحيح. عرفت المجتمعات هذه الحقيقة وعبرت عنها برموز مختلفة. عندما نستعمل مصطلحات مثل جسد الامة او قلبها النابض او صمام الامان او عينها الساهرة نستعير من الجسد واعضائه ما يضفي علي السياسة المعني المرجو. كذلك نستعير الامراض التي تضرب الجسد لنجسد آفات السياسة فالسرطان يستشري في السياسة كما يستشري في الجسد والعمي يضرب القيادة كما يضرب العين وهلم جرا.
البلاط الراقص المتنقل هو كالجسد الراقص علي ايقاعات قديمة تم استهلاكها في حقبات تاريخية مختلفة. كثير من ملوك العرب الحاليين يعتمدون علي فكرة البلاط المتحرك. اما في السعودية فهذا تقليد ارتبط بتأسيس الدولة الحديثة. فبعد ان تبدد دخان المعارك التوحيدية في المناطق المختلفة جاء دور البلاط المتنقل ليكرس ويثبت الولاء هذا الولاء لم يكن ليتم لولا ما سماه مؤرخ البلاط الزركلي في كتابه المعروف عن الجزيرة بصرة الملك. هذه الصرة ذكرها ايضا فيلبي في كتاباته. كانت الصرة ترافق البلاط المتنقل في الرحلات الداخلية فبعد كل رقصة واستعراض تختتم البيعة باعلان الولاء ومن ثم تفرغ الصرة من محتواها. في حينها كانت تحتوي علي جنيهات فضة وذهب وكان الملك هو المسؤول الاول عن عملية التفريغ هذه. وعندما تنثر القروش علي الارض تهب الرعية لتلتقط نصيبها بعد ان اشبعت جسدها بطبق الرز والضأن ومسحت علي شواربها ولحاها ما تبقي علي اناملها من دهن بري يفوق عطره دهن العود وأعمدة البخور المتصاعدة من مباخر البلاط. فبعد الدهن البري ودهن السير ـ عفوا ايها القارئ العربي بعض من المحلي في عالم معولم ـ تكتمل حلقات الولاء والسمع والطاعة ويتم الوصل والتواصل بين الراعي والرعية وبين الجسد والسياسة. لم يتغير المبدأ فاليوم ما تزال الصرة العنصر الفعال والاقوي في شراء الولاء اذ انها تعوض عن مشكلة اكتسابه وربما ما تغير هو شكلها فقط ونوعية محتوياتها. نلاحظ نقلة نوعية اذ اختفت قروش الفضة والذهب واستعيض عنها بـ الشيك والهبة والقرض والمعاش والاكرامية والاستثمار وبعثة دراسية ورخصة تجارية وكفالة عمال اجانب وقروض شعبية وصناديق فقر الي ما هنالك من حداثة اقتصادية. وما تغير ايضا هو كون الصرة الحديثة عابرة للمحيطات والبحار قادرة علي فعل الكثير خارج الحدود القطرية. فكما احتفظت الصرة بمبدئها كذلك تم تعميم الرقصات خارج الحدود اذ ان البلاط الراقص هو ايضا قابل للتصدير تحت مظلة وزارة الخارجية كما ذكرنا سابقا في احد المقالات علي صفحات هذه الجريدة.
رقصات الراعي والرعية لا تأتي من مبدأ احياء التراث والثقافة المحلية الخاصة بهذه المنطقة او تلك. بل هي تأتي من باب بث الحيوية في الحياة السياسية والقيادة معا. اكثر من السابق تحتاج الدولة السعودية الي مثل هذه الرقصات الجماعية خاصة وانها تمر بمرحلة انتقالية فبينما تخلت الدولة عن كثير من مقولاتها السابقة وخاصة غطاءها الديني والذي ضمن لها نوعا من الشرعية السطحية لم تتضح المعالم الجديدة للنظام بعد. فهذا النظام ما يزال في طور صياغة خطاب جديد لم يتبلور بشكل شفاف واضح. ارتبط هذا الخطاب بصورة الراعي الذي يصور وكأنه بالاضافة الي تصدر الرقصات يتصدر مشروع الاصلاح السياسي المزعوم. فالجسد المتحرك او المتمايل في مثل هذه الرقصات ما هو الا من رموز السياسة التي تسير علي رمال متحركة ورياح متقلبة. لقد أسدل الستار عن المسرحية السابقة والتي استمرت لعقود طويلة تصدر التمثيل فيها والاخراج شرائح كثيرة ساهمت في استمرارية المسرحية وترويجها. اليوم يتم التحضير للفصل الثاني والذي يختلف اختلافا مهما عن الفصل الاول. الفصل الحالي يتميز بالتقلب والانتظار والذي قد ملت منه الرعية كما انه يتميز بالحراك الجسدي المتنقل هذا الحراك مستعد لان يتنقل في سبيل التواصل من شرائح اجتماعية بل حتي مناطق قد شعر النظام ذاته انها تتململ منه ومن هيمنته. سافر البلاط الي المناطق يطلب ولاءها ضمن اطار الاحتفالات الشعبية عسي ولعل تنسي هذه المناطق خصوصيتها وتذوب في خصوصية المركز السياسي ولم لا وقد استطاع المركز ان يستهلكها عندما استهلك تراثها الشعبي وأطعمتها.
سيبقي النظام السعودي حبيس الرقصات الجماعية يراهن علي لغة الجسد ولغة السياسة.