منذ بضع سنوات، يمم العقيد معمر القذافي، قائد الثورة العربية الليبية، صوب القارة الأفريقية، داعياً وعاملاً على توحيدها. هذا التوجه الجديد لانعتقد أنه بديل، أو على حساب دعوته للوحدة العربية، التي حاول لعدة سنوات الدفع بمشروعها دون أن يجد أي اهتمام أو استجابة من أشقائه الحكام العرب، ناهيك عما سببوه للأمة العربية من حالة الضعف والهوان، وانحدار المواقف، وسقوط الأدوار التي أضاعت فلسطين، وفرطت بالعراق، ووقفت موقف المتفرج من حصار الشعب العربي الليبي، فتحدته القارة الأفريقية، وكسرت طوقه، واخترقت جدرانه. هذا الدور الأفريقي الشجاع ربما كان وراء إقناع العقيد القذافي في إعطاء القارة الأفريقية ومشروع وحدتها بعض الأولوية في جهوده واهتماماته، بغض النظر عن كون مقومات مشروع الوحدة العربية كاملة، ومقومات مشروع الوحدة الأفريقية غير واضحة، وقد تكون غير قابلة للاكتمال. ولكن ما يعطينا المزيد من الوضوح حول الشوط الذي قطعه مشروع الوحدة الأفريقية، وما أثار اهتمامنا، هو ما طرحه العقيد القذافي في حديثه أمام البرلمان السنغالي، في أبريل الماضي، ونختار منه القضايا الأربع التالية:
الأولى: كشف العقيد القذافي النقاب عن أن مشروع الوحدة الأفريقية مازال يراوح لدى الحكومات الأفريقية التي ظلت تبرر موقفها بأن البرلمانات لم تناقش المشروع. وحينما التقى العقيد القذافي ببعض رؤساء وأعضاء البرلمانات الأفريقية، اكتشف أن الحكومات لم تطرح المشروع على هذه البرلمانات، وأن المشروع لازال في ملعبها، مما يعني أن الوضع الأفريقي ليس بأفضل حالاً من الوضع العربي في ما يختص بقضية الوحدة.
الثانية: أثار العقيد القذافي موضوع اللغة، ودعا الشعوب الأفريقية الى استخدام لغتها الأصلية »اللغة السواحلية«، وتدريسها في المدارس بدلاً من اللغات الأجنبية، والمقصود بالأجنبية هي التي خلفها الاستعمار، مما يعني وجود تعدد في اللغة، أجنبية وعربية وسواحلية، وربما غير ذلك. هذا التعدد في اللغة يخلق تعدداً في كل شيء له علاقة باللغة، في الوقت الذي تمثل فيه اللغة مقوما أول وأساسياً من مقومات أية وحدة، ناهيك عن أن الشعوب الأفريقية لاتدين كلها بالإسلام، مما يشكل عقبة أمام النظم والتشريعات.
الثالثة: أثار العقيد القذافي موضوع الأحوال الشخصية، ودعا الشعوب الأفريقية الى إيجاد نظم للأحوال الشخصية، تحفظ الأسرة والمجتمع، وتنظم الحقوق والعلاقات. وأشار الى الظلم الذي تتعرض له المرأة في المجتمعات الأفريقية، وضرب مثالاً بواحدة منهن خلفت خمسة عشر طفلاً من ثلاثة أزواج، وأصبحت هي المسؤولة وحدها عن رعايتهم والإنفاق عليهم، بعد أن تركهم آباؤهم وتخلوا عنهم، مع أن مسؤولية الرعاية والإنفاق تقع على الآباء في الأساس. هذا الوضع هو الذي يخلق شباباً مشوهاً، وعرضة للانحراف والجريمة والاستخدام السيئ، ويضع أفريقيا موضع الانتقادات الدولية، مما يعني أن الشعوب الأفريقية التي نريد منها ونطالبها بالوحدة، مازالت عند الحاجة الى أن تنظم أحوالها الشخصية. وهي قضية مفروغ منها في الأمة العربية، لاتحرجها، ولا تضعها في مرمى أي نقد.
الرابعة: أثار العقيد القذافي موضوعاً ديمقراطياً يتعلق بتولي السلطة، وأنه من الممكن ديمقراطياً بقاء الحاكم حاكماً، ولو مدى الحياة، طالما يريده شعبه. ودعا الشعوب الأفريقية الى إلغاء النصوص الدستورية التي تضع سقفاً لبقاء الحاكم في السلطة، ولا تعطيه حق الاستمرار فيها.
يبدو أن الأخ العقيد معمر القذافي غضبان وطفشان من الشعوب وليس من الحكام، لأن مثل هذه الدعوة تصب كلها في جراب الحكام، وليس في قنوات الشعوب. ولكننا نريد هنا أن نقول إن الذين فكروا بنظام السقف الزمني كوسيلة للتغيير، كانوا يعلمون يقيناً صعوبة تغيير الحكام، ولو بالديمقراطية، في كثير من الأحيان، وأن الشعوب التي استطاعت أن تغير حكامها بالديمقراطية، قليلة في التاريخ الإنساني، أما الغالبية تجد نفسها أمام معادلة صعبة، تقول حساباتها وفلسفتها إن المواطن الذي يقبع داخل السلطة، ويمسك بزمامها، ويجلس على مقوماتها ومقدراتها دائماً، يحبه الشعب، سواءً بالاحتيال، أو رغم أنفه، بعكس المواطن الذي من خارج السلطة، فهو الخسران دائماً في المعادلة، وإن أحبه الناس. وأمامنا أمثلة لا حصر لها، ولكننا سنكتفي بمثال واحد لرأس الديمقراطية في العالم، كما يدعون ويصنفون أنفسهم، ونقصد بها الديمقراطية الأمريكية، ففي الدورة الانتخابية الأولى التي خاضها جورج بوش من خارج السلطة، وصل الى السلطة بحكم محكمة، وليس بالديمقراطية. وكانت غالبية أعضاء المحكمة من حزبه، أما في الدورة الانتخابية الثانية التي خاضها بوش من داخل السلطة، فقد انسحب منافسه الديمقراطي مسلماً بفوزه قبل أن تظهر النتائج النهائية.
إذن، فالشعوب الغالبة المغلوبة لاتحتاج فقط الى سقف زمني دستوري يحدد فترة البقاء في السلطة، ويحقق التغيير، بل تحتاج الى نصوص دستورية تحظر على السلطة أن تكون مرشحاً منافساً، وتقرر المنافسة عليها لمرشحين من خارجها ولا علاقة لهم بها. وبمثل هذا الوضع يمكن أن تستقيم وتستقر المعادلة السياسية (سلطة ومعارضة)، لأن السلطة حق عام لايمكن احتكاره أو حصره في شخص أو أشخاص، وإن نظام التداول لهذا الحق طريق ووسيلة للتغيير، والتغيير من سنن الله في الكون.