• وصية حسين الشافعي
  • منذ 18 سنة - Monday 21 November 2005

 
إن مراحل إعادة بناء القوات المسلحة وإقامة قاعدة الصواريخ وحرب الاستنزاف، هى الركائز التى مهدت لحرب أكتوبر وكل منها ملحمة ينبغى أن تسجل بكل تفاصيلها وتضحياتها من الأموال والأنفس، وكانت الملحمة الرابعة هى الضرب فى العمق، ومنها ضرب مدرسة بحر البقر ومنطقة الخانكة وأبى زعبل وقناطر نجع حمادى - وفى النهاية لم يبق لهم من سبيل للانتقام من العمليات الناجحة فى حرب الاستنزاف الا الاعتداء بالغارات الجوية على مدن القناة: بورسعيد والإسماعيلية والسويس، والملحمة الخامسة كانت تهجير أهل مدن القناة الثلاث، حيث بلغ عد المهجرين ما يقرب من مليون ونصف المليون. وبذلك لم يبق للعدو أى مجال للانتقام، وأصبحت عملية التهجير هى بمثابة العبور الى الهدف الذى تحقق فى العاشر من رمضان الموافق 6 أكتوبر 1973.
وفى عام 1972 وقبل الحرب بسنة وعشرة أشهر، قامت المظاهرات فى جميع الجامعات، حيث إن عام 1971 الذى أطلق عليه عام الحسم. فلما مضى عام الحسم دون حسم، وكان صبر الناس قد نفد.
قامت المظاهرات تعبيراً وتنفيسا، وكانت المظاهرات فى جامعة أسيوط هى الأشد، وهب من ذهب من المسئولين لتهدئة النفوس إلا أنهم فى أسيوط أرادوا أن يستمعوا الى من يمثل ثورة 23 يوليو، فجاء لمقابلتى وفد من أهل أسيوط وممثلون لاتحاد طلبة الجامعة وممثلون لمجلس إدارة الجامعة وتم الاتفاق على تلبية هذه الدعوة الكريمة وتحدد لهذا اللقاء التاريخى يوم 4 مارس 1972.
ركبت قطار الصعيد بمفردى وحيداً، حيث اعتذر وزير التعليم العالى فى اللحظة الأخيرة، وكان هذا الوزير هو شمس الدين الوكيل، بدعوى أن السادات أراد مناقشة سياسة التعليم فى هذا اليوم.
وصلت محطة أسيوط ظهرا وكان فى استقبالى أصحاب الدعوة وهم مجلس إدارة الجامعة وممثلو اتحاد الطلبة وأهل المدينة ومعهم المسئولون فى المحافظة، وتوجهنا الى الجامعة وكان الطلبة فى الكافيتريا يتناولون وجبة الغداء، وكان كل منهم يحمل بين يديه ما يحمل عليه طعامه فتقدمت وأخذت مكانى معهم فى الصف لأتناول وجبة الغداء معهم مما يأكلون، وكنت سعيدا وكانوا سعداء بهذه المشاركة، وذهبت للحجرة التى أعدت لى لأستكمل بينى وبين نفسى الإجابة عن هذا السؤال: ما الذى يريد أصحاب الدعوة أن يسمعوه مني؟ وكانت هذه الخلوة استكمالا لما بدأته فى رحلة القطار من مناقشة الموقف بأبعاده بعد أن انقشع غبار معركة 1967، ودخلنا فى مراحل التصدى والصمود وحرب الاستنزاف التى أوقفتها مبادرة روجرز.
صليت العصر ودعوت الله والتمست منه التوفيق، حيث إن الكلمة قدر، والكلمة أمانة، والكلمة مسئولية، والكلمة اهتمام للسامع وبقدر ما يكون بها من إخلاص يكون مردودها التوفيق والقبول.
وبدأ الاجتماع مع غروب الشمس، وأردت ان تكون السيطرة على الاجتماع محكمة على قدر الإمكان، فطلبت ألا توجه الأسئلة إلا من خلال المنصة ومن خلال من يمثل الطلبة، فوافق الجميع على أن رئيس اتحاد الطلبة هو الذى توجه من خلاله الأسئلة، فدعوته ليأخذ مكانا معنا فى المنصة.
وبدأ الاجتماع بالكلمات التقليدية التى تعبر عن إدارة الجامعة واتحاد الطلبة وأهل مدينة أسيوط، وجاء دورى فى الكلام، فقلت فى كلمة مرتجلة كل مافى نفسى تعبيرا عما عشناه ومارسناه، فكانت كلمة فيها تحديد للمنهج الذى علينا اتباعه لمواجهة أعدائنا مهما كان حجمهم ومهما كان تدبيرهم.
قلت: لأول مرة أحضر اليكم فى مدينتكم أسيوط بعد انتقال جمال عبدالناصر، ومن حق هذا الرجل علينا فى البلد الذى انبته ان نذكر ما انجزه خلال خمسة عشر عاما.
إن ما أنجزه لا يقع تحت حصر، ولن يذكر له التاريخ فى كل ما أنجز إلا أنه بثورة 23 يوليو المجيدة، استطاع ان يحرك واقع المنطقة العربية، ولكنه مات سنة 1967، إلا أنه تشبث بالحياة، ليستمر انسحابه من الحياة فى عام 1970. وفى هذه المرحلة خاض أمجد معاركه عندما أعاد بناء القوات المسلحة وأقام قاعدة الصواريخ وبدأ حرب الاستنزاف، فلما شعر بالأمان مات مطمئنا فتحية لنضاله وفاتحة لروحه.
ثم ألقيت المسئولية على عاتق الأخ الزميل أنور السادات، وهى مسئولية لا يسعى اليها عاقل. ولكن اذا القيت المسئولية على عاتق الرجال فينبغى أن يحملوها كما يحمل الرجال مسئولياتهم، وإنى أدعوكم أن تقفوا الى جانبه وتساندوه وتدعوا له بالتوفيق. وقوبل هذا الاستهلال من هذا الجمع الذى كان يتجاوز عدده 10 آلاف بالقبول والارتياح.
وشعرت بأن المشاعر العامة تشد من أزرى وتشجعنى للدخول فى صلب الموضوع الذى أعلم أنه يشغل بال الحاضرين بعد أن عاشوا كما عاش شعب مصر هذه المرحلة فى قلق وتربص وانتظار لنرد ونثأر لعام 1967، فنغسل العار ونحقق الانتصار.
لكل ذلك فالصراع بين الأقوياء عندما تكون مصر فى دورات الزمان المتقلبة ليست على مستوى القيادة، تكون مطمعا للأقوياء كل يريدها لنفسه. وهذا الوضع يعرضنا لمعركة تفرض نفسها علينا، وليس من المفيد أن نستعين بقوة منهم على الأخري، فإنهم فى نهاية المطاف يؤكدون أن الوفاق بينهم لضربنا مقابل تسويات وتنازلات بينهم.
وقد حدث ذلك فى عام 1904 فيما يسمى بالوفاق الودى بين إنجلترا وفرنسا. انفردت إنجلترا باحتلالها لمصر مقابل إطلاق يد فرنسا فى تونس وشمال أفريقيا. وها هو التاريخ يعيد نفسه، حينما كان الصراع ين روسيا وأمريكا وانتهى بهما الأمر بضربنا فى عام 1967 والذى وصفته فى هذا اللقاء قائلا:
إن ما حدث فى 1967 كان خيانة وكان مؤامرة اتفقت فيها الأطراف واستدرج فيها من استدرج وجاز الأمر على السذج، لكى نعيش النتيجة. واتضح من هذه التجارب المتكررة انه لا سبيل لمواجهة هذه العداوات إلا فى الارتباط بالأكبر وهو الله القوى العزير.
أما المعركة الثانية: فهى ضد الوجود الإسرائيلى بكل ما يمثله من أطماع تتمثل فى الشعار الذى يرفعونه، وهو ملكك يا إسرائيل من الفرات الى النيل، وهذا ما يشير اليه علمهم الذى تتوسطه نجمة داود فى أعلاها وأسفلها خطان باللون الأزرق إشارة الى النيل والفرات.
وما وجودهم فى أرض فلسطين المحتلة إلا مقدمة إلى أطماعهم التى لا تقف عند حد، وهى الدولة الوحيدة التى ليس لها حدود ويقولون: الحدود حيث تصل الجنود.
ولذلك فإن المعركة بيننا وبينهم هى معركة حياة أو موت، وهى أن نكون أو لا نكون.
إن أسلوبهم فى مواجهتنا هو أسلوب انتهازى يعمل على استدراجنا فى معارك تقليدية، يملكون فيها التفوق فى التسليح الذى تمدهم به حاضنتهم أمريكا. وهم يريدونها حربا خاطفة تنتهى فى أيام، فيكون انتصارهم انتصارا مضللا فيزيدهم صلفا وغرورا وينعكس علينا اليأس والإحباط.
ولقد آن الآوان ان نستدرجهم نحن الى المعركة التى نملك فيها كل عناصر التفوق فى العدد وامتداد الأرض وحجم الموارد، التى تزخر بها أراضينا الممتدة من الخليج الى المحيط عربيا، ومن المحيط الى المحيط إسلاميا، وهذا يقتضى منا أن نرفع شعارا جديدا يعبر عن هذه الطاقات فى حرب فدائية- اقتصادية - سياسية- ثقافية- فكرية- علمية تحت هذا الشعار... إرهاق الوجود الإسرائيلى فدائيا- سياسياً- اقتصاديا- ثقافيا- علميا- فكريا، ونعد لكل ميدان من هذه الميادين الستة خطة عمل مفصلة.. وعندما ننتهى من هذه الدراسة تكون الخطة المتكاملة، ونبدأ فى تنفيذها خطوة خطوة، وتكون مصر هى القيادة التى تنطلق منها هذه الدعوة، وفى كل يوم ينضم الى كتائب الفدائيين فى كل هذه الميادين إلى أن تتسع الجبهة على الأعداء، فلا يكون أمامهم من سبيل إلا الجنوح الى السلم الذى لم يجنحوا له أبداً إلا تحت هجمات الفداء، من حرب الاستنزاف، الى انتفاضة الحجارة الأولي، إلى المقاومة فى لبنان، الى الانتفاضة الأخيرة التى بدأت فى 28 سبتمبر 2000، مع الذكرى الثلاثين لانتقال جمال عبدالناصر، وكأنها بذلك تجدد الصمود، وتقول ثوار ثوار ولآخر المدى ثوار، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.
وبعد 30 سنة فى عام 1947 كان قرار التقسيم، ثم حرب 1948 لإتمام جريمة العصر بهذا التحالف الصهيونى الغربى الذى ستظل البشرية تعانى منه إلى أن يأذن الله بتدبيره المحكم، الذى يتم مرحلة تتلوها مرحلة من البذل والفداء وإرهاق هذا الوجود حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة، فنردد جميعا قول الحق تبارك وتعالي: وقُلْ جَاءَ الحَقُّ وزَهَقَ البَاطلُ إنَّ البَاطلَ كان زَهُوقًا الإسراء: 81.
إنها شعلة الثورة التى تتجدد فى صور متتابعة لا تتوقف مادامت الحياة فإن عدوكم على استعداد للتسليم بقدر ما فى نفوسكم من تصميم.
 
مقدمة آخر كتبه إرهاق الوجود الإسرائيلى الصادر عن دار الشروق